فصل: تفسير الآيات (78- 80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (78- 80):

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)}
{فأخذتهم الرجفة} أي الزلزلةُ لكن لا إثرَ ما قالوا بعد ما جرى عليهم من مبادئ العذابِ في الأيام الثلاثةِ حسبما مر تفصيلُه {فأصبحوا في دارهم} أي صاروا في أرضهم وبلدِهم أو في مساكنهم {جاثمين} خامدين موتى لا حَراكَ بهم، وأصلُ الجثومِ البروكُ، يقال: الناسُ جثومٌ أي قعود لا حَراك بهم ولا ينبِسون نبْسةً، قال أبو عبيدة: الجثومُ للناس والطير، والبروكُ للإبل، والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير اضطرابٍ ولا حركة كما يكون عند الموت المعتاد، ولا يخفى ما فيه من شدة الأخذِ وسرعةِ البطش.
اللهم إنا بك نعوذ من نزول سخطِك وحُلولِ غضبِك. وجاثمين خبرٌ لأصبحوا والظرفُ متعلقٌ به، ولا مساغ لكونه خبراً وجاثمين حالاً لإفضائه إلى كون الإخبارِ بكونهم في دارهم مقصوداً بالذات وكونِهم جاثمين قيداً تابعاً له غيرَ مقصودٍ بالذات. قيل: حيث ذُكرت الرجفةُ وُحِّدت الدارُ، وحيث ذُكرت الصيحةُ جمعت لأن الصيحةَ كانت من السماء فبلوغُها أكثرُ وأبلغُ من الزلزلة فقُرن كلٌّ منهما بما هو أليقُ به {فتولى عنهم} إثرَ ما شاهد ما جرى عليهم تولى مغتماً متحسّراً على ما فاتهم من الإيمان متحزناً عليهم {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} بالترغيب والترهيبِ وبذلتُ فيكم وُسْعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك وصيغةُ المضارع في قوله تعالى: {ولكن لا تحبون الناصحين} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ أي شأنُكم الاستمرارُ على بغض الناصحين وعدامتِهم، خاطبهم عليه الصلاة والسلام بذلك خطابَ رسولِ الله عليه الصلاة والسلام أهلَ قلَيبِ بدرٍ حيث قال: «إنا وجدْنا ما وعدنا ربُّنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟» وقيل: إنما تولى عنهم قبل نزولِ العذاب بهم عند مشاهدتِه عليه الصلاة والسلام لعلاماته تولى ذاهباً عنهم منكراً لإصرارهم على ما هم عليه. وروي أن عَقرَهم الناقةَ كان يوم الأربِعَاءِ ونزل بهم العذابُ يوم السبت، وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخانَ ساطعاً فعلم أنهم قد هلَكوا وكانوا ألفاً وخمسَمائةِ دارٍ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارَهم.
{ولوطاً} منصوبٌ بفعل مضمر على ما سبق، وعدمُ التعرُّضِ للمرسل إليهم مقدماً على المنصوب حسبما وقع فيما سبق وما لحِق قد مر بيانُه في قصة هودٍ عليه السلام، وهو لوطُ بنُ هارانَ بن تارح بنُ أخي إبراهيمَ كان من أرض بابلَ من العراق مع عمه إبراهيمَ فهاجر إلى الشام فنزل فلسطينَ وأنزل لوطاً الأردُنّ وهي كورةٌ بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سَدومَ وهي بلدٌ بحِمْصَ، وقوله تعالى: {إذ قال لقومه} ظرفٌ للمضمر المذكورِ أي أرسلنا لوطاً إلى قومه وقت قولِه لهم الخ، ولعل تقييدَ إرسالِه عليه السلام بذلك لما أن إرسالَه إليهم لم يكن في أول وصولِه إليهم، وقيل: هو بدلٌ من لوطاً بدلَ اشتمالٍ على أن انتصابَه باذكر، أي اذكرْ وقتَ قولِه عليه السلام لقومه: {أتأتون الفاحشة} بطريق الإنكارِ التوبيخيِّ التقريعيِّ أي أتفعلون تلك الفعلةَ المتناهيةَ في القبح المتماديةِ في الشرية والسوء {ما سبقكم بها} ما عمِلها قبلكم على أن الباء للتعدية كما في قوله تعالى: {من أحد} مزيدةٌ لتأكيد النفي وإفادةِ معنى الاستغراقِ، وفي قوله تعالى: {من العالمين} للتبعيض، والجملةُ مستأنفةٌ مسوقة لتأكيد النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ والتقريعِ، فإن مباشرةَ القبيحِ قبيحٌ واختراعَه أقبحُ، ولقد أنكر الله تعالى عليهم أولاً إتيانَ الفاحشةِ ثم وبخهم بأنهم أولُ من عمِلها فإن سبكَ النظمِ الكريمِ وإن كان على نفي كونِهم مسبوقين من غير تعرّضٍ لكونهم سابقين، لكن المرادَ أنهم سابقون لكل مَنْ عداهم من العالمين كما مر تحقيقه مراراً في نحو قوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} أو مسوقةٌ جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل من جهتهم: لم لا نأتيها؟ فقيل بياناً للعلة وإظهاراً للزاجر: ما سبقكم بها أحدٌ لغاية قُبْحِها وسوءِ سبيلها فكيف تفعلونها؟ قال عمرو بن دينار: ما نزَا ذكرٌ على ذكر حتى كان قومُ لوط. قال محمد بنُ إسحاق: كانت لهم ثمارٌ وقُرى لم يكن في الدنيا مثلُها فقصدهم الناسُ فآذَوْهم فعرض لهم إبليسُ في صورة شيخٍ فقال: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجَوْتم منهم فأبَوْا فلما ألحّ الناسُ عليهم قصدوهم فأصابوا غِلْماناً صِباحاً فأخبثوا فاستحكم فيهم ذلك، قال الحسن: كانوا لا يفعلون ذلك إلا بالغرباء، وقال الكلبي: أول من فُعل به ذلك الفعلُ إبليسُ الخبيثُ حيث تمثل لهم في صورة شابٍ جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عبثوا بذلك العمل.

.تفسير الآيات (81- 82):

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} خبرٌ مستأنفٌ لبيان تلك الفاحشةِ وقرئ بهمزتين صريحتين وبتليين الثانيةِ بغير مدَ وبمد أيضاً على أنه تأكيدٌ للإنكار السابقِ وتشديدٍ للتوبيخ، وفي زيادة إنّ واللامِ مزيدُ توبيخٍ وتقريعٍ، وكان ذلك أمرٌ لا يتحقق صدورُه عن أحد فيؤكد تأكيداً قوياً، وفي إيراد لفظِ الرجالِ دون الغِلمان والمُرْدان ونحوِهما مبالغةً في التوبيخ وقوله تعالى: {شَهْوَةً} مفعول له أو مصدرٌ في موقع الحالِ، وفي التقييد بها وصفُهم بالبهيمية الصِّرْفة وتنبيهٌ على أنّ العاقلَ ينبغي له أن يكون الداعيَ له المباشرَ طلبُ الولد وبقاءُ النوعِ لا قضاءُ الشهوةِ. ويجوز أن يكون المرادُ الإنكارَ عليهم وتقريعَهم على اشتهائهم تلك الفعلةَ الخبيثةَ المكروهة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {مّن دُونِ النساء} أي متجاوزين النساءَ اللاتي هن محلُّ الاشتهاء كما ينبىء عنه قوله تعالى: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضرابٌ عن الإنكار المذكورِ إلى الإخبار بحالهم التي أفضَتْهم إلى ارتكاب أمثالِها وهي اعتيادُ الإسرافِ في كل شيءٍ أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبِهم، أو عن محذوف أي لا عذرَ لكم فيه بل أنتم قومٌ عادتُكم الإسراف.
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي المستكبرين منهم المتولين للأمر والنهي المتصدِّين للعقد والحل وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي ما كان جواباً من جهة قومِه شيءٌ من الأشياء إلا قولُهم أي لبعضهم الآخرين المباشِرين للأمور معرضين عن مخاطبته عليه السلام {أَخْرِجُوهُم} أي لوطاً ومن معه من أهله المؤمنين {مّن قَرْيَتِكُمْ} أي إلا هذا القولُ الذي يستحيل أن يكون جواباً لكلام لوطٍ عليه السلام. وقرئ برفع جواب على أنه اسمُ كان و{إلا أن قالوا} الخ، خبرُها وهو أظهرُ وإن كان الأولُ أقوى في الصناعة لأن الأعرفَ أحقُّ بالاسمية.
وأياً ما كان فليس المرادُ أنه لم يصدُرْ عنهم بصدد الجوابِ عن مقالات لوطٍ عليه السلام ومَواعظِه إلا هذه المقالةُ الباطلةُ كما هو المتسارعُ إلى الإفهام بل أنه لم يصدُرْ عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينهم وبينه عليه السلام إلا هذه الكلمةُ الشنيعةُ، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثيرٌ من التُرَّهات حسبما حُكي عنهم في سائر السورِ الكريمة وهذا هو الوجهُ في نظائره الواردةِ بطريق القصر، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} تعليلٌ للأمر بالإخراج، ووصفُهم بالتطهر للاستهزاء والسخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش والخبائث والافتخارِ بما هم فيه من القذارة كما هو ديدنُ الشُطّار والدُعّار.

.تفسير الآيات (83- 85):

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)}
{فأنجيناه وَأَهْلَهُ} أي المؤمنين منهم {إِلاَّ امرأته} استثناءٌ من أهله فإنها كانت تُسِرّ بالكفر {كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي الباقين في ديارهم الهالِكين فيها، والتذكيرُ للتغليب ولبيان استحقاقِها لما يستحقه المباشِرون للفاحشة، والجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ عن استثنائها من حكم الإنجاءِ، كأنه قيل: فماذا كان حالُها؟ فقيل: كانت من الغابرين {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} أي نوعاً من المطر عجيباً وقد بينه قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} قال أبو عبيدة: مُطر في الرحمة وأُمطِر في العذاب. وقال الراغب: مُطر في الخير وأُمطر في العذاب، والصحيح أن أَمطَرنا بمعنى أرسلنا عليهم إرسالَ المطر. قيل: كانت المؤتَفِكةُ خمسَ مدائن، وقيل: كانوا أربعةَ آلافٍ بين الشام والمدينة فأمطر الله عليهم الكِبريتَ والنارَ، وقيل: خَسَف بالمقيمين منهم وأُمطرت الحجارةُ على مسافريهم وشُذّاذهم، وقيل: أُمطر عليهم ثم خُسِف بهم. ورُوي أن تاجراً منهم كان في الحرَم فوقف الحجرُ له أربعين يوماً حتى قضى تجارتَه وخرج من الحرم فوقع عليه، وروي أن امرأتَه التفتت نحوَ ديارِها فأصابها حَجَرٌ فماتت {فانظر كَيْفَ كَانَتْ عاقبة المجرمين} خطابٌ لكل من يتأتى منه التأملُ والنظرُ تعجيباً من حالهم وتحذيراً من أعمالهم.
{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} عطفٌ على قوله: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} وما عُطف عليه، وقد روعيَ هاهنا ما في المعطوف عليه في تقديم المجرورِ على المنصوب، أي وأرسلنا إليهم وهم أولادُ مدينَ بنِ إبراهيمَ عليه السلام وشعيبُ بنُ ميكائيلَ بنِ يشجَر بنِ مدينَ، وقيل: شعيبُ بنُ ثويبِ بنِ مدينَ، وقيل: شعيبُ بنُ يثرونَ بنِ مدينَ، وكان يقال له: خطيبُ الأنبياء لحسن مراجعتِه قومَه وكانوا أهلَ بخسٍ للمكاييل والموازين مع كفرهم {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌ على سؤال نشأ عن حكاية إرسالِه إليهم كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال: {فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} مر تفسيرُه مراراً {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ} أي معجزةٌ وقوله تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} متعلقٌ بجاءتْكم أو بمحذوف هو صلةٌ لفاعله مؤكدةٌ لفخامته الذاتيةِ المستفادةِ من تنكيره بفخامته الإضافيةِ، أي بينةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ كائنةٌ من ربكم ومالِك أمورِكم ولم يُذكرْ معجزتُه عليه السلام في القرآن العظيم كما لم يُذكر أكثرُ معجزاتِ النبي صلى الله عليه وسلم فمنها ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التّنّينَ حين دفع إليه غنمَه ومنها ولادةُ الغنمِ الدرعَ خاصة حين وعد أن يكون له الدرعُ من أولادها، ومنها وقوعُ عصا آدمَ عليه السلام على يده في المرات السبعِ لأن كلَّ ذلك كان قبل أن يُستنبأ موسى عليه السلام. وقيل: البينةُ مجيئُه عليه السلام كما في قوله تعالى: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى}
أي حجةٌ واضحةٌ وبرهانٌ نيِّرٌ، عبّر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة {فَأَوْفُواْ الكيل} أي المكيالَ كما وقع في سورة هودٍ ويؤيده قولُه تعالى: {والميزان} فإن المتبادرَ منه الآلةُ وإن جاز كونُه مصدراً كالمعيار وقيل: آلةَ الكيل والوزن على الإضمار، والفاءُ لترتيب الأمرِ على مجيء البينةِ ويجوز أن تكون عاطفةً على اعبدوا فإن عبادةَ الله تعالى موجبةٌ للاجتناب عن المناهي التي معظمُها بعد الكفرِ البخْسِ الذي كانوا يباشرونه {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} التي تشترونها بهما معتمدين على تمامهما أيَّ شيءٍ كان وأيَّ مقدارٍ كان، فإنهم كانوا يبخسون الجليلَ والحقيرَ والقليلَ والكثيرَ، وقيل: كانوا مكّاسين لا يدَعون شيئاً إلا مكَسوه، قال زهير:
أفي كل أسواقِ العراقِ إِتاوة ** وفي كل ما باع امرؤٌ مَكْسُ درهمِ

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الارض} أي بالكفر والحيف {بَعْدَ إصلاحها} بعد ما أصلح أمرَها وأهلَها الأنبياءُ وأتابعُهم بإجراء الشرائعِ، أو أصلحوا فيها وإضافتُه إليها كإضافة مكرِ الليلِ والنهار {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} إشارةٌ إلى العمل بما أمرَهم به ونهاهم عنه، ومعنى الخيريةِ إما الزيادةُ مطلقاً أو في الإنسانية وحسنِ الأُحدوثة وما يطلُبونه من التكسب والربح لأن الناسَ إذا عرفوهم بالأمانة رغِبوا في معاملتهم ومُتاجَرَتِهم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مصدّقين لي في قولي هذا.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} أي بكل طريقٍ من طرق الدِّين كالشيطان. وصراطُ الحقِّ وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارفَ وحدودٍ وأحكامٍ وكانوا إذا رأَوْا أحداً يشرَع في شيء منها منعوه. وقيل: كانوا يجلِسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذابٌ لا يفتنَنَّك عن دينك ويتوعّدون لمن آمن به وقيل: يقطعون الطريق {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي السبيلِ الذي قعَدوا عليه فوقع المُظهرُ موقعَ المضمرِ بياناً لكل صراطٍ ودلالةً على عِظم ما يصدون عنه وتقبيحاً لما كانوا عليه، أو الإيمانِ بالله أو بكل صراط على أنه عبارة عن طرق الدين وقوله تعالى: {مَنْ ءامَنَ بِهِ} مفعول تصدون على إعمال الأقربِ، ولو كان مفعولَ توعِدون لقيل: وتصُدونهم، وتوعِدون حالٌ من الضمير في تقعدوا {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشُبَهِ أو بوصفها للناس بأنها مُعْوجةٌ وهي أبعدُ شيءٍ من شائبة الاعوجاج.
{واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} بالبركة في النسل والماء {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الأمم الماضيةِ كقوم نوحٍ ومَنْ بعدهم من عاد وثمودَ وأضرابِهم واعتبِروا بهم.

.تفسير الآيات (87- 88):

{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)}
{وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ} من الشرائع والأحكام {وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ} أي به أو لم يفعلوا الإيمان {فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} أي بين الفريقين بنصر المُحقّين على المبطلين فهو وعدٌ للمؤمنين ووعيدٌ للكافرين {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} إذ لا معقِّبَ لحكمه ولا حَيْفَ فيه.
{قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} استئنافٌ مبنيٌ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل: فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظَ من شعيبٍ عليه السلام؟ فقل: قال أشرافُ قومِه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غيرَ مكتفِين بمجرد الاستعصاءِ عليه والامتناعِ من الطاعة له بل بالغين من العُتوّ والاستكبارِ إلى أن قصَدوا استتباعَه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعَه المؤمنين واجترأوا على إكراههم عليه بوعيد النفي وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيدِ القسمي: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ} بنسبة الإخراجِ إليه عليه السلام أولاً وإلى المؤمنين ثانياً بعطفهم عليه تنبيهاً على أصالته عليه السلام في الإخراج وتبعيتِهم له فيه كما ينبىء عنه قوله تعالى: {مَعَكَ} فإنه متعلقٌ بالإخراج لا بالإيمان وتوسيطُ النداءِ باسمه العَلَميِّ بين المعطوفَين لزيادة التقريرِ والتهديدِ الناشئةِ من غاية الوقاحةِ والطغيان، أي والله لنُخرجنّك وأتباعَك {مِن قَرْيَتِنَا} بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبةِ على المساكنة والجِوارِ، وقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} عطفٌ على جواب القسم، أي والله ليكونن أحدُ الأمرين البتة، على أن المقصِدَ الأصليَّ هو العَوْدُ، وإنما ذُكر النفيُ والإجلاءُ لمحض القسر والإلجاءِ كما يُفصِحُ عنه عدمُ تعرُّضِه عليه السلام لجواب الإخراجِ كأنهم قالوا: لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخُلوا في ملتنا، وإدخالُهم له عليه السلام في خطاب العَوْدِ مع استحالة كونِه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليبِ الجماعةِ على الواحد وإنما لم يقولوا: أو لنُعيدنّكم على طريقة ما قبله لِما أن مُرادَهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعيةِ حِذارَ الإخراجِ باختيار أهونِ الشرَّين لا إعادتُهم بسائر وجوهِ الإكراهِ والتعذيب.
{قَالَ} استئنافٌ كما سبق أي قال عليه السلام رداً لمقالتهم الباطلةِ وتكذيباً لهم في أَيْمانهم الفاجرة: {أَوْ لَوْ كُنَّا كارهين} على أن الهمزةَ لإنكار الوقوعِ ونفيِه لا لإنكار الواقعِ واستقباحِه كالتي في قوله تعالى: {أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ} ويجوز أن يكون الاستفهامُ فيه باقياً على حاله وقد مر مراراً أن كلمةَ لو في مثل هذا المقامِ ليست لبيان انتفاءِ الشيءِ في الزمن الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظةً قصديةً إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابقُ بالذات أو بالواسطة من الحُكم الموجَب أو المنفي على كل حال مفروضٍ من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهر بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولويةِ لِما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويِّ فلأَن يتحققَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكرُ معه شيءٌ من سائر الأحوال ويُكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها، وهذا معنى قولِهم: إنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيل الإجمالِ، وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك: فلانٌ جوادٌ يعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يعطي ولو كان غنياً، وكقولك: أحسنْ إليه ولو أساء إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك لبقائه على حاله سالماً عما يغيّره، وأما فيما نحنُ فيه ففية نوعُ خفاءٍ لتغيّره بورود الإنكارِ عليه، لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيز لو مقرّرٌ على ما هو عليه من الاستبعاد، بخلاف ما نحن فيه، لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال هو مدلولُه لا مدلولُ المذكورِ وأن الجملةَ حالٌ من ضميره لا من ضمير المذكورِ كما سيأتي أو المقصودُ الأصلي إنكارُ مدلولِه من حيث مقارنتُه للحالة المذكورةِ، وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ وأن ما في حيز {لو} لا يقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أمرٌ مقرّرٌ إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ مبالغةً في الإنكار من جهة أن العودَ مما يُنكر عند كونِ الكراهةِ أمراً مستعداً فكيف به عند كونِها أمراً محققاً ومعاملةً مع المخاطَبين على معتقدَهم لاستنزالهم من رتبة العِناد؟ وليس المرادُ بالكراهة مجردَ كراهةِ المؤمنين للعود في ملة الكفرِ ابتداءً حتى يقال إنها معلومةٌ لهم فكيف تكون مستبعدةً عندهم بل إنما هي كراهتُهم له بعد وعيدِ الإخراجِ الذي جُعل قريناً للقتل في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} الآية، فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمَعون في أنهم حينئذ يختارون العَوْدَ خشيةَ الإخراجِ، إذ رُب مكروهٍ يُختار عند حلولِ ما هو أشدُّ منه وأفظعُ، والتقديرُ: أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غيرَ مبالين بالإكراه؟ فالجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدرِ حسبما أُشير إليه، إذ مآلُه: أنعود فيها حالَ عدمِ الكراهةِ، وحالُ الكراهةِ إنكارٌ لما تفيده كلمتُهم الشنيعةُ بإطلاقها من العَوْد على أي حالة كانت، غيرَ أنه اكتُفِيَ بذكر الحالة الثانيةِ التي هي أشدُّ الأحوالِ منافاةً للعود وأكثرُها بُعداً منه تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمر، وثقةً بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءً واضحاً لأن العودَ الذي تعلق به الإنكارُ حين تحققَ مع الكراهة على ما يوجبه كلامُهم فلأن يتحققَ مع عدمها أولى.
إن قلتَ: النفيُ المستفادُ من الاستفهام الإنكاريّ فيما نحن فيه بمنزلة صريحِ النفي ولا ريب في أن الأولويةَ هناك معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي، ألا يُرى أن الأولى بالتحقق فيما ذُكر من مثال النفي عند الحالةِ المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغِنى هو عدمُ الإعطاءِ لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقيق فيما نحن فيه عند عدمِ الكراهةِ عدمُ العَوْدِ لا نفسُه، إذ هو الذي يدل عليه قولُنا: أنعود؟ لأنه في معنى لا نعود، فلمَ اختلف الحالُ بينهما؟ قلتُ: لِما أن مناطَ الأولويةِ هو الحكمُ الذي أريد بيانُ تحققِه على كل حالٍ وذلك في مثال النفي عدمُ الإعطاءِ المستفادِ من الفعل المنفي المذكور، وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ العودِ المستفادِ من الفعل المقدرِ إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم: {لتعودُن} وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه واردٌ عليه لإبطال ما يفيده ونفيِ ما يقتضيه لا أنه من تمامه كما في صورة النفي، وتوضيحُه أن بين النفيين فرقاً معنوياً تختلف به أحكامُهما التي من جملتها ما ذُكر من اعتبار الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه، وفي الآخر بالنسبة إلى متعلَّقه ولذلك لا تستقيم إقامةُ أحدِهما مُقامَ الآخَر على وجه الكلية، ألا يُرى أنك لو قلت مكانَ أنعود فيها الخ، لا نعود فيها ولو كنا كارهين لاختلَّ المعنى اختلالاً فاحشاً، لأن مدلولَ الأولِ نفيُ العَوْد المقيدِ بحال الكراهة ومدلولَ الثاني تقييدُ العودِ المنفيِّ بها وذلك لأن حرفَ النفي يباشر نفسَ الفعلِ وينفيه، وما يُذكر بعده يرجِعُ إليه من حيث هو منفيٌّ. وأما همزةُ الاستفهامِ فإنها تباشر الفعلَ بعد تقيُّدِه بما بعده، لما أن دِلالتَها على الإنكار والنفي ليست بدلالة وضعيةٍ كدِلالة حرفِ النفي حتى يتعلقَ معناها بنفس الفعلِ الذي يليها، ويكونَ ما بعده راجعاً إليه من حيث هو منفيٌّ، بل هي دِلالةٌ عقليةٌ مستفادةٌ من سياق الكلامِ فلابد أن يكون ما يُذكر بعد الفعلِ من موانعه ودواعي إنكارِه ونفيِه حتماً ليكون قرينةً صارفةً للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكارِ والنفي، ثم لما كان المقصودُ نفيَ الحُكم على كل حال مع الاقتصار على ذكر بعضٍ منها مغنٍ عن ذكر ما عداها لاستلزام تحقّقِه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية وكانت حالُ الكراهةِ عند كونها قيداً لنفس العَوْدِ كذلك أي مغنياً عن ذكر سائرِ الأحوالِ ضرورة أن تحققَ العَوْدِ في حال الكراهةِ مستلزِمٌ لتحققه في حال عدمِها البتةَ، وعند كونِها قيداً لنفيه بخلاف ذلك أي غيرُ مغنٍ عن ذكر غيرِها ضرورة أن نفيَ العودِ في حال الكراهةِ لا يستلزم بقية في غيرهابل الأمرُ بالعكس فإن نفيَه في حال الإرادةِ مستلزمٌ لنفيه في حال الكراهةِ قطعاً.
استقام الأول لإفادته نفيَ العودِ في الحالتين مع الاقتصار على ذِكْر ما هو مغنٍ عن ذكر الآخر، ولم يستقم الثاني لعدم إفادتِه إياه على الوجه المذكور. إن قيل: فما وجهُ استقامتِهما جميعاً عند ذكرِ المعطوفَيْن معاً حيث يصِحّ أن يقال: لا نعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين كما يصح أن يقال: أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين مع أن المقدّر في حكم الملفوظِ قلنا: وجهُها أن كلاًّ منهما يفيد معنىً صحيحاً في نفسه لا أن معنى أحدِهما عينُ معنى الآخر أو متلازمان متفقانِ في جميع الأحكام، كيف لا ومدلولُ الأولِ أن العودَ منتفٍ في الحالتين ومدلولُ الثاني أن العودَ في الحالتين منتفٍ وكلا المعنيين صحيحٌ في نفسه مصحِّحٌ لنفي العَوْدِ في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول فإنه مصحِّحٌ لنفيه فيهما مع الاقتصار على ذكر حالةِ الإرادة.